ملكال بعض الرحيق أنا والبرتقال انت
بقلم: ياسر محمود سيدأحمد
*****
كانت سماء ملكال مسقط رأسي ومهد طفولتي وصباي لوحة مرسومة بأقواس قزح ، ولياليها المضاءة بنو اليراعات التي تطير في فضاءاتها الرحيبة فتحلق في أفقها البعيد وتملأه شعاعا ، كم طابت لنا يومها فكرة ذلك الطالب الصيني والذي حدثنا عنه كتاب المطالعة وهو يحشد اليراعات داخل زجاجة أضحت كوكب دري ، ولكن ملكال لا شرقية ولا غربية ، زيتونة يكاد زيتها يضيء ، في تلك السنوات الباكرة وأنا يافع غر أصطاد اليراعات لأصنع منها قنديل أخضر كما أقتات المعرفة الممزوجة بالخيال المستمد من حكاوي كتب المقررات وأحاجي الجدات عن الأرواح وأحاديث الأسلاف ، وحكاوي الناس وطرق كسب رضائهم ، وقبل ذلك كانت كتب الدراسة تتحدث عن (سبل كسب العيش في السودان) والرحلات الافتراضية التي كانت تتم داخل الفصول والتلاميذ يسافرون إلي (قولد) الصديق ليأكلون معه (الكبيته) والتلاميذ يرددون
فى القولد التقيت بالصديـق
أنعم به من فاضل ، صديقى
خرجت أمشى معه للساقية
ويا لها من ذكريات باقيــة
فكم أكلت معــه الكابيدا
وغدا تجدهم في رحاب (منقو زمبيري) في أقصي الجنوب كأنهم امتلكوا ذلك البساط السحري الذي يسافر بلا قيود ، مثل أسفار متصوفة سنار كما ذكر محمد ود ضيف الله صاحب كتاب الطبقات . كما مثل ريميدس الجميلة التي طارت وهي تنشر غسيل ملأتها من شرفة ما في قرية (ماكوندو) في رواية ماركيز (مائة عام من العزلة ) . عاش تلاميذ السودان تردد حناجرهم الغضة مدة تجاوز الخمسين عاما هذا النشيد :
ما زلت فى رحلاتي السعيدة
حتى وصلت يا مبيو البعيدة
منطقة غزيرة الاشجــار
لما بها من كثرة الأمطــار
قدم لى منقو طعـام البفره
وهو لذيذ كطعام الكســـره .
حين أخبرني اخ أكبر في أواخر الألفية الماضية وعلامات الحزن باديه عليه بأن الصديق قد مات ، وقفت لأعزيه في فقده الجلل فقد خلته أحد أقاربه ، وحين شرح لي من هو الصديق الذي خلته من شخصيات المربي الأستاذ عبد الرحمن علي طه مثل شخصيات توم أند جيري التي ابتكرها (والت ديزني) ، لم أعرف طوال تلك السنوات إن الصديق شخصية لها لحمها ودمها ، فلم يخبرنا أحد الأصدقاء بوفاة منقو زمبيزي هل يعيش بيننا وقد تجاوز عمره أكثر من المائة عام من الحياة ،
اخبرته بأني (شليق) منذ الطفولة الباكرة أحاول أن اتعرف علي الاشياء التي تكبرني منذ أن ذبح مسعود الخروف وحكايات أخري فقد عرفت المدونة الطبيعية والصديق وجون في استراليا وفو في الصين ، حتي تعرف علي مدي أمميتي ، ومنقو زمبيري يوم كان بيتنا واحد ، أخبرت صديقي بشغفي بحكاوي الكبار والتلصص علي مقرراتهم الدراسية منذ أن علي المهد صبيا ،
لكن صدقوني لم اعرف أن الصديق شخص من لحم ودم . بل اعتبرته مثل شخصيات (ميكي ماوس) التي اخترعها (والت ديزني ) . وان الصديق من اختراعات عبد الرحمن علي طه وأن بخت الرضا لم تكن سوي ( ديزني لاند ) حاول عبد الرحمن علي طه أن يلهب أخيله القرويين السودانيين من أبناء ذلك الجيل . وأن (الكبيته) هي المقابل الموضوعي لجاتوه (ماري انطوانيت) زوجة لويس الخامس عشر في المسرحية التي كانت تدرس لطلاب الثانويات حيث كنت أتلصص علي مقرراتهم .
كأنما ملكال الرابضة في ضفة النهر الشرقية كانت مدينة شادها فنانين ينتمون الي مدارس فنية مختلفة جعلوا لها رصيف نهري طويل جلبوا له الحجارة من مناطق بعيدة ، بنوا سوقها ، وجامعها ٱية من الروعة والجمال ، مباني الري المصري ٱية من الروعة المصالح الحكومية ، مدينة حديثة بنيت بمنتهي الجمال وغاية الأناقة أتي اليها العاشقين من كل صوب أرتالا ، منهم من قدم إليها من التوفيقية التي تربض بقايا آثارها جنوب المدينة ، وعشاق آخرون عبروا عباب النهر حتي وصلوها بسلام ٱمنين ، كأنما هي فردوس وعدوا به , فاتخذوها وطنا لهم تحابوا وتصاهروا فيه ، فما ببن سكان بحر أبيض اتصال ، تمخر مراكب أهل الشمال عباب النهر ، وتستمر غزوات الشلك طوال عهد الدولة السنارية ، فالمدينة الرابضة في ضفة النهر الشرقية يجعل منظر الغروب كأنما الشمس تغيب في غيابة النهر ، ذلك المشهد الذي يراه سكان المدينة كأنما الشمس و(نيكانج) صارا ذات واحدة و(نيكانج ) ذلك الإله الأسطوري الذي أتي من النهر وأفل داخل ذات النهر ، فذلك من فيوض الديانات القديمة ، هؤلاء القوم الذين شاع بأسهم وهم يهددون الدولة السنارية ، ويهددون حكم بادي الثاني ، لا يمل ود ضيف في طبقاته عن زكرهم ، قتلوا الشيخ سماعين صاحب الربابة جنوب الدويم وسيطروا علي الكوة وربما كانت هذه أراضيهم ، واستولي عليها تحالف العربان عرب القواسمة ، مع الفونج ، لكني قرأت أن الشلك قد دمروا قرية الخرطوم في العام ،١٧٨٠م وحين تم فتحها في عهد محمد علي باشا وجدوها مدينه أشباح ، ليس بها إلا مباني مهجورة وقبور.
النيل ذلك الاله الأفعى كما وصفه مصطفي سعيد في رواية الطيب صالح موسم الهجرة الي الشمال لمعشوقته (ٱن همند) ، وكما قال الشاعر ادريس جماع
والنيل من نشوة الصهباء سلسلة وساكنو النيل سمار وندمان
وخفقة الموج أشجان تجاوبها من القلوب التفاتات وأشجان .
فسكان بحر أبيض باختلاف أعراقهم هم سكان النيل وندمائه .
قبل سنوات قليله أتاني شخص سبعيني من أهلنا الجموعيه ، وهو يحمل شهادات بحث لأراضي بقرية في الجموعية جنوب أم درمان تحمل اسم (فشودة ) ، وكم كنت في حيرة وحين سألته أجابني بأن هذا اسم قريتهم منذ مات السنين فتساءلت لماذا أنحسر مد الشلك .
منذ سنوات الجامعة بالقاهرة بمصر كان يأتيني صديق مدرسة البندر الابتدائية بملكال أبان جيمس الطالب بجامعة الاسكندرية وهو يعطر الليالي وسمرها بأحاديث الشلك وفتوحاتهم بقيادة (نيكانج) المحارب ، وقدومهم من منطقة البحيرات حتي وصولهم لمصر والتي توجد لفظها في لغتهم فيطلقون عليها (بودريب) .
أذكر في احتفالات المولد النبوي الشريف بملكال ، حتي تئن ضربات النوبة وتئن أفئدة هؤلاء الأفارقة ، والذين اتخذوها بديلا للنقارة .
حكي لنا ابن الشيخ المكاشفي الذي حل ضيفا علي دارنا بملكال في سبعينات القرن الماضي ولا أدري ، ربما التلمذة تعني الأبوة لدي الصوفيين ، أبوة رمزية ربما ، حيث حكي بأن الطبل حين يهدر في قري شمال أعالي النيل ، فيجتمع الناس أفواجا بنظرون ، وتذبح الثيران والناس يأكلون حتي يشبعون ، ثم يتسٱلون عن مغزي ذلك فيجيبهم أحد أبناء المنطقة وبلسانهم المبين ، أن هذا نور الهدي ، وأنه النور العظيم الذي بهدي للصراط المستقيم ، فيدخل الناس في دين الله أفواجا ، وبذات الطريق بالحسني والذي دخل فيه أحفاد قلاوون ملك النوبة ، فلا أحد يسألهم عن فقههم ؟؟، ولا كيف يتزوجون ؟؟ ولا كيف يطلقون ؟؟.
حدثنا محمد ود ضيف الله في طبقاته بأن المرأة كانت تطلق وتتزوج في ذات الليلة إلا أن فقيه أزهري كان قد وفد إليهم. . وأعلمهم أن هناك عدة للمرأة ، لابد من تمامتها .
تمخر بك الباخرة عباب النهر وأنت تصعد النيل كما يقول أهلنا ، (المندليه ) وتلك العبارة تعني ( النوتية) الذين كانوا يجوبون عباب النهر صعودا ونزولا منذ فجر تاريخ بعيد ،
هم من قادوا تلك الأفلاك ، وهم من نواتي نبي الله (الخضر ) .
يقول الشيخ (بابكر بدري) في كتابه (حياتي) بأنه حين هم ببناء مدرسة الأحفاد القسم الثانوي ففي العام ١٩٤٦م أرسل ابنه يوسف بدري بالطائرة إلي ملكال للاكتتاب وجمع التبرعات فتم جمع مبلغ ٢٣٨جنيها بمساعدة التاجر عبدالله الحاج محمد علي والموظف معني محمد حسن وقد كان اكتتاب الموظفين في ملكال من أكبر الاكتتابات التي جمعت كما ذكر الشيخ بابكر بدري فهذا النسيج الاجتماعي ظل الكرم هو ديدنها علي مر تاريخها ، تمر السنوات وبيت الأزهري الذي شغل السياسيين والعامة فها هو إسماعيل الأزهري يطلب من تجار المدينة عونا فلم يتوانوا في استجابتهم الفورية وبكل الأريحية والنبل والأزهري عائد من منفاه في الرجاف كما في الوثيقة الشهيرة ، فقصة الحب التي تم بنائها بأعواد (السيلك) والقنا المضلع كظهر الثور ، مثل ما وصف الطيب صالح في موسم الهجرة للشمال الغرفة التي شادها مصطفي سعيد علي قرية ود حامد الرابضة عند منحني النيل ، ولكن عند بحر أبيض في ملكال تشيد مباني الحب جدرانها (بالشرقانيات ) من نبات (الطرور) و(النال) الذي يعبق بروائحه عند هطول الأمطار ، فيعطر المساءات ، أما الطين اللزج الممزوج بروث الأبقار له عبق ، ما أن تشتمه حتي تحس أنك موجودا ، وأنك حي ، تستنشق ، وأنك مكتمل الحواس ، فرؤية اليراعات التي تطير في أوائل الليل خير دليل علي أنك كائن مبصر ، وإحساسك بلدغ البعوض أنك شهادة بأنك حي ترزق ، وصوت النقاقير والطبول القادمة من البعيد تحملها الرياح وتردد خلفها الضفادع النقيق تأكد بأنك مكتمل الحواس وأن قلبك أخضر وينبض ويخفق ، وتأكد أنك مشروع للحب وللحياة والجمال لايزال صالحا .
فالكثيرون سيروون عن قصص حبهم وعن كيف بدأت وكيف انتهت ، فالحب ليس رواية شرقية تنتهي بزواج الأبطال كما قال لنا في سنوات عمرنا الباكرات الشاعر نزار ، فحب المدائن والأنهر والعرصات المتسعة لا يحتاج لمن يكتبون له ورقة وشهود ونحن ننتمي فقط للإشهار ، فملكال هي قصة الحب التي لا تزال في خاطري
لكن ياملكال سنعود مثلما تعود الطيور إلي أوكارها ومثلما تعود الأسماك الي أنهارها ، ففي ذات صباح من صباحاتك المكللات بالندي الذي يبدو علي نباتاتك الخضراء كاللؤلؤ المنثور سنعود إلي سماواتك المتشحات بسحائبك الزرقاء الرمادية الألوان ، سنعود لطينك ولأمطارك للبرق والرعود ، سنسير في شوارعك نسير مصطفين ، ترقبينا فالأبناء لابد لأمهاتهم أن يعودوا ذات صباح جميل ، فأنت لن تموتين ، فقط تمرضين ثم تطيبين ، ماكال حين نعود سنقرأ عليك كل التعاويذ من الديانات الأرضية وسيقرأ عليك أصحاب الديانات السماوية كل الأناجيل ، سيأتيك (نيكانج) الذي سيخرج من عمق النهر ليعيد مباركتك ، سنأتي نحن المسلمون لنقرأ عليك قرآن الفجر ، وإن قرآن الفجر هو أحسن قرآنا . وبسم مسجدك الفخيم والذي كتب علي محرابه آية الله الكريمة ، ( كلما دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا ۖ..) فملكال ستجد رزقها عند أبنائها الهائمون في مدن تكاد تموت من البرد حيتانها ، وفي مدن الملح في الخليج ، أو في معسكرات النزوح أو في ديسابوارات أخري ، فكل هذه المنافي لابديل لها سوي الأوطان ، فوطنك هو ذلك الذي يراودك في أحلامك ، حيث مراتع الصبا التي لن تنمحي صورها وتظل ضد النسيان.
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ملكال… المدينة التي حملتني وحطمتني
ملكال… المدينة التي حملتني وحطمتني بقلم / بول فيتر قونج حين أغمض عيني، أرى ملكال. أراها كما كانت، لا كما صارت. مدينة صغيرة لكنها كانت بحجم...

-
الشهيد/ احمد الرضي جابر عمل بالتدريس وتدرج حتى مرتبة الموجه التربوي ومساعدا للمحافظ للشؤون التربوية بمحافظة اعالي النيل (ملكال) وكان س...
-
أسماء خالدة في ذاكرتنا : العم عبيد محمد نور. .. كتب حسن عثمان/ وحسن قسم الله ابوجميل عبيد محمد نور صاحب أشهر بازار فى الإقليم الجنوبي. ...
-
معلومات مهمة وتاريخية عن مدينة ملكال... *تحويل عاصمة المديرية لمدينة ملكال كان ذلك عام 1916 ولم تكن هى العاصمة قبل ذلك التاريخ بل كانت العا...
أزال المؤلف هذا التعليق.
ردحذفتسلم علي كتابة التاريخ مدنتي ملكال
ردحذف